فصل: ذكر اهتمامه بأمر الجهاد:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية (نسخة منقحة)



.ذكر عدله رحمه الله تعالى:

روى أبو بكر الصديق رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: الوالي العادل ظل الله في أرضه فمن نصحه في نفسه أو في عباده أظله الله تحت عرشه يوم لا ظل إلا ظله ومن خانه في نفسه أو في عباده خذله الله يوم القيامة، يرفع للوالي العادل في كل يوم عمل ستين صديقاً كلهم عابد مجتهد لنفسه.
ولقد كان رحمه الله عادلاً رؤوفاً رحيماً ناصراً للضعيف على القوي. وكان يجلس للعدل كل يوم اثنين وخميس في مجلس عام يحضره الفقهاء والقضاة والعلماء ويفتح الباب للمتحاكمين حتى يصل إليه كل أحد من كبير وصغير وعجوز هرمة وشيخ كبير وكان يفعل ذلك سفراً وحضراً. على أنه كان في جميع زمانه قابلاً لجميع ما يعرض عليه من القصص في كل يوم ويفتح باب العدل ولم يرد قاصداً للحوادث والحكومات. وكان يجلس مع الكاتب ساعة إما في الليل أو في النهار ويوقع على كل قصة بما يجريه الله على قلبه ولم يرد قاصداً أبداً أو منتحلاً ولا طالب حاجة وهو مع ذلك دائم الذكر والمواظبة على التلاوة رحمة الله عليه. ولقد كان رؤوفاً بالرعية ناصراً للدين مواظباً على تلاوة القرآن العزيز عالماً بما فيه عاملاً به لا يعدوه أبداً رحمة الله عليه. وما استغاث إليه أحد إلا وقف وسمع قضيته وكشف ظلامته واعتنى بقصته. ولقد رأيته واستغاث إليه إنسان من أهل دمشق يقال له ابن زهير على تقي الدين ابن أخيه فأنفذ إليه ليحضر إلى مجلس الحكم وكان تقي الدين من أعز الناس عليه وأعظمهم عنده ولكنه لم يحابه في الحق.
وأعظم من هذه الحكاية مما يدل على عدله قضية جرت له مع إنسان تاجر يدعى عمر الخلاطي وذلك أني كنت يوماً في مجلس الحكم بالقدس الشريف إذ دخل على شيخ حسن تاجر معروف يسمى عمر الخلاطي معه كتاب حكمي يسأل فتحه فسألته من خصمك فقال خصمي السلطان وهذا بساط العدل وقد سمعنا أنك لا تحابي أحد قلت وفي أي قضية هو خصمك فقال إن سنقر الخلاطي كان مملوكي ولم يزل على ملكي إلى أن مات وكان في يده أموال عظيمة كلها لي ومات عنها واستولى عليها السلطان وأنا مطالبه بها فقلت له يا شيخ وما أقعدك إلى هذه الغاية فقال الحقوق لا تبطل بالتأخر وهذا الكتاب الحكمي ينطق بأنه لم يزل في ملكي إلى أن مات فأخذت الكتاب منه وتصفحت مضمونه فوجدته يتضمن حلية سنقر الخلاطي وأنه قد اشتراه من فلان التاجر بأرجيش اليوم الفلاني من شهر كذا من سنة كذا وأنه لم يزل في ملكه إلى أن شذ عن يده في سنة كذا وما عرف شهود هذا الكتاب خروجه عن ملكه بوجه ما وتم الشرط إلى آخره فتعجبت من هذه القضية وقلت للرجل لا ينبغي سماع هذا بلا وجود الخصم وأنا أعرفه وأعرفك ما عنده فرضي الرجل بذلك واندفع فلما اتفق المثول بين يديه في بقية ذلك اليوم عرفته القضية فاستبعد ذلك استبعاداً عظيماً وقال كنت نظرت في الكتاب فقلت نظرت فيه ورأيته متصل الورود والقبول إلى دمشق وقد كتب عليه كتاب حكمي من دمشق وشهد به على يد قاضي دمشق شهود معروفون فقال مبارك نحن نحضر الرجل ونحاكمه ونعمل في القضية ما يقضيه الشرع. ثم اتفق بعد ذلك جلوسه معي خلوة فقلت له هذا الخصم يتردد ولا بد أن نسمع دعواه فقال أقم عني وكيلا يسمع الدعوى ثم يقيم الشهود شهادتهم وأخر فتح الكتاب إلى حين حضور الرجل ها هنا ففعلت ذلك ثم أحضر الرجل واستدناه حتى جلس بين يديه وكنت إلى جانبه ثم نزل من طراحته حتى ساواه وقال إن كان لك دعوى فاذكرها فحرر الرجل الدعوى على معنى ما شرح أولاً فأجابه السلطان أن سنقر هذا كان مملوكي ولم يزل على ملكي حتى أعتقته وتوفي وخلف ما خلفه لورثته فقال الرجل لي بينة تشهد بما ادعيته ثم سأل فتح كتابه ففتحه فوجدته كما شرحه فلما سمع السلطان التاريخ قال عندي من يشهد أن سنقر هذا في هذا التاريخ كان في ملكي وفي يدي بمصر وأني اشتريته مع ثمانية أنفس في تاريخ متقدم على هذا التاريخ بسنة وأنه لم يزل في يدي وملكي إلى أن أعتقته ثم استحضر جماعة من أعيان الأمراء والمجاهدين فشهدوا بذلك وذكروا القصة كما ذكرها والتاريخ كما ادعاه فأبأس الرجل فقلت له يا مولاي هذا الرجل ما فعل ذلك إلا طلباً لمراحم السلطان وقد حضر بين يدي المولى ولا يحسن أن يرجع خائباً للقصد فقال هذا باب آخر وتقدم له بخلعة ونفقة بالغة قد شذ عني مقدارها. فانظر إلى ما في طي هذه القضية من المعاني الغريبة العجيبة والتواضع والانقياد إلى الحق وإرغام النفس والكرم في موضع المؤاخذة مع القدرة التامة رحمه الله تعالى رحمة واسعة.

.ذكر طرف من كرمه رحمه الله:

قال صلّى الله عليه وسلّم إذا عثر الكريم فإن الله آخذ بيده وفي الكرم أحاديث، وكرمه قدس الله روحه كان أظهر من أن يسطر، وأشهر من أن يذكر لكن نبهت عليه جملة، وذلك أنه ملك ما ملك ومات ولم يوجد في خزانته من الفضة إلا سبعة وأربعون درهماً ناصرية ومن الذهب إلا جرم واحد صوري ما علمت وزنه وكان رحمه الله يهب الأقاليم وفتح آمد وطلبها منه ابن قره أرسلان فأعطاه إياه.
ورأيته قد اجتمع عنده جمع من الوفود بالقدس الشريف وكان قد عزم على التوجه إلى دمشق ولم يكن في الخزانة ما يعطى للوفود فلم أزل أخاطبه في معناهم حتى باع أشياء من بيت المال وفضضنا ثمنها عليهم ولم يفضل منه درهم واحد.
وكان رحمه الله يعطي في وقت الضيق كما يعطي في حال السعة. وكان نواب خزائنه يخفون عنه شيئاً من المال حذراً أن يفاجئهم معهم لعلمهم بأنه متى علم به أخرجه وسمعته يقول في معرض حديث جرى: يمكن أن يكون في الناس من ينظر إلى المال كما ينظر إلى التراب فكأنه بذلك أراد نفسه رحمه الله تعالى.
وكان يعطي فوق ما يؤمل الطالب فما سمعته قط يقول أعطينا لفلان.
وكان يعطي الكثير ويبسط وجهه للعطاء بسطه لمن لم يعطه شيئاً. وكان رحمه الله يعطي ويكرم أكثر مما يعطى وكان قد عرفه الناس فكانوا يستزيدونه في كل وقت وما سمعته قط يقول قد زدت مراراً فكم أزيد.
وأكثر الرسائل كانت تكون في ذلك على لساني ويدي وكنت أخجل منه من كثرة ما يطلبون ولا أخجل منه من كثرة ما أطلبه لهم لعلمي بعدم مؤاخذته في ذلك وما خدمه أحد إلا وأغناه عن سؤال غيره.
وأما تعداد عطاياه وتعداد صنوفها فلا تطمع فيها حقيقة أصلاً وقد سمعت من صاحب ديوانه يقول لي قد تجاربنا عطاياه فحصرنا عدد ما وهب من الخيل بمرج عكا فكان عشرة آلاف فرس. ومن شاهد مواهبه يستقل هذا القدر. اللهم إنك ألهمته الكرم وأنت أكرم منه فتكرم عليه برحمتك ورضوانك يا أرحم الراحمين.

.ذكر شجاعته قدس الله روحه:

روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: إن الله يحب الشجاعة ولو على قتل حية.
ولقد كان رحمه الله تعالى من عظماء الشجعان قوي النفس شديد البأس عظيم الثبات لا يهوله أمر ولقد رأيته يعطي دستوراً في أوائل الشتاء ويبقى في شرذمة يسيرة في مقابلة عددهم الكثير وقد سألت باليان بن بارزان وهو من كبار ملوك الساحل وهو جالس بين يديه رحمه الله يوم انعقاد الصلح عن عدتهم فقال الترجمال عنه أنه يقول كنت أنا وصاحب صيدا وكان أيضاً من ملوكهم وعقلائهم قاصدين عسكرنا من صور فلما أشرفنا عليه تحازرناه فحزرهم هو خمس مائة ألف وحزرتهم أنا بستمائة ألف أو قال عكس ذلك قلت فكم هلك منهم فقال أما بالقتل فقريب من مائة ألف وأما بالموت والغرق فلا نعلم وما رجع من هذا العالم إلا الأقل.
وكان لا بد له من أن يطوف حول العدو في كل يوم مرة أو مرتين إذا كنا قريباً منهم. ولقد وصل في ليلة واحدة منهم نيف وسبعون مركباً على عكا وأنا أعدها من بعد صلاة العصر إلى غروب الشمس وهو لا يزداد إلا قوة نفس.
وكان رحمه الله تعالى إذا اشتد الحرب يطوف بين الصفين ومعه صبي واحد على يده جنيب ويخرق العساكر من الميمنة إلى الميسرة ويرتب الأطلاب ويأمرهم بالتقدم والوقوف في مواضع يراها. وكان يشارف العدو ويجاوره رحمه الله. ولقد قرئ عليه جزآن من الحديث بين الصفين وذلك أني قلت له قد سمع الحديث في جميع المواطن الشريفة ولم ينقل أنه سمع بين الصفين فإن رأى المولى أن يؤثر عنه ذلك كان حسناً فأذن في ذلك فأحضر جزءه كما أحضر من له به سماع فقرأ عليه ونحن على ظهور الدواب بين الصفين نمشي تارة ونقف أخرى.
وما رأيته استكثر العدو أصلاً ولا استعظم أمرهم قط وكان مع ذلك في حال التفكر والتدبير تذكر بين يديه الأقسام كلها ويرتب على كل قسم بمقتضاه من غبر حدة ولا غضب يعتريه. ولقد انهزم المسلمون في يوم المصاف الأكبر بمرج عكا حتى القلب ورجاله ووقع الكؤس والعلم وهو رضي الله عنه ثابت القدم في نفر يسير حتى انحاز إلى الجبل بجمع الناس ويردهم ويخجلهم حتى يرجعوا ولم يزل كذلك حتى نصر عسكر المسلمين على العدو في ذلك اليوم وقتل منهم زهاء سبعة آلاف ما بين راجل وفارس ولم يزل رحمه الله مصابراً لهم وهم في العدة الوافرة إلى أن ظهر له ضعف المسلمين فصالح وهو مسؤول من جانبهم فإن الضعف والهلاك كان فيهم أكثر ولكنهم كانوا يتوقعون النجدة ونحن لا نتوقعها وكانت المصلحة في الصلح وظهر ذلك لما أبدت الأقضية الإلهية والأقدار ما في مكنونها. وكان رحمه الله يمرض ويصح وتعتريه أحوال مهولة وهو مصابر مرابط وتتراءى الناران ونسمع منهم صوت الناقوس ويسمعون منا صوت الأذان إلى أن انقضت الوقعة على أحسن حال وأيسره قدس الله روحه ونور ضريحه.

.ذكر اهتمامه بأمر الجهاد:

قال الله تعالى: {والذين جاهدوا فينا لنهديهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين} ونصوص الجهاد كثيرة. ولقد كان رحمه الله شديد المواظبة عليه عظيم الاهتمام به ولو حلف حالف أنه ما أنفق بعد خروجه إلى الجهاد ديناراً ولا درهماً إلا في الجهاد أو في الأرفاد لصدق وبر في يمينه.
ولقد كان حبه للجهاد والشغف به قد استولى على قلبه وسائر جوانحه استيلاءً عظيماً بحيث ما كان له حديث إلا فيه ولا نظر إلا في آلته ولا كان له اهتمام إلا برجاله ولا ميل إلا إلى من يذكره ويحث عليه. ولقد هجر في محبة الجهاد في سبيل الله أهله وأولاده ووطنه وسكنه وسائر بلاده وقنع من الدنيا بالسكون في ظل خيمة تهب بها الرياح ميمنة وميسرة. ولقد وقعت عليه الخيمة في ليلة ريحية على مرج عكا فلو لم يكن في البرج لقتلته ولا يزيده ذلك إلا رغبة ومصابرة واهتماماً. وكان الرجل إذا أراد أن يتقرب إليه يحثه على الجهاد وأنا ممن جمع له فيه كتاباً جمعت فيه آدابه وكل آية وردت فيه وكل حديث روي في فضله وشرحت غريبها.
وكان رحمه الله كثيراً ما يطالعه حتى أخذه منه ولده الملك الأفضل عز نصره ولأحكينّ عنه ما سمعته منه وذلك أنه كان قد أخذ كوكب في ذي القعدة سنة أربع وثمانين وخمسمائة وأعطى العسكر دستوراً وأخذ عسكر مصر في العود إلى مصر وكان مقدمها أخاه الملك العادل عز نصره فسار معه ليودعه ويحظى بصلاة العيد في القدس الشريف حرسه الله تعالى وسرنا في خدمته. ولما صلى العيد في القدس وقع له أن يمضي إلى عسقلان ويودعهم بعسقلان ثم يعود على طريق الساحل يتفقد البلاد الساحلية إلى عكا ويرتب أحوالها فأشاروا عليه أن يفعل فإن العساكر إذا فارقتنا نبقى في عدة يسيرة والفرنج كلهم بصور وهذه مخاطرة عظيمة فلم يلتفت رحمه الله وودع أخاه والعسكر بعسقلان ثم سرنا في خدمته إلى الساحل طالبي عكا. وكان الزمان شتاء والبحر هائجاً شديداً وموجه كالجبال كما قال تعالى وكنت حديث عهد برؤية البحر فعظم أمر البحر عندي حتى خيل لي أني لو قال لي إن جزت في البحر ميلاً واحداً ملكتك الدنيا لما كنت أفعل واستسخفت رأي من ركب البحر رجاء دينار أو درهم واستحسنت رأي من لا يقبل شهادة راكب بحر هذا كله خطر لي لعظم الهول الذي شاهدته من حركة البحر فبينا أنا في ذلك إذ التفت إلي رحمه الله. وقال أما أحكي لك شيئاً في نفسي أنه متى يسر الله تعالى فتح بقية الساحل قسمت البلاد وأوصيت وودعت وركبت هذا البحر إلى جزائره واتبعتهم فيها حتى لا أبقي على وجه الأرض من يكفر بالله أو أموت فعظم وقع هذا الكلام عندي حيث ناقض ما كان خطر لي وقلت له ليس في الأرض أشجع نفساً من المولى ولا أقوى منه نية في نصرة دين الله تعالى فقال فكيف فقلت أما الشجاعة فلأن مولانا ما يهوله أمر هذا البحر وهوله. وأما نصرة دين الله فهو أن المولى ما يقنع بقلع أعداء الله من موضع مخصوص في الأرض حتى تطهر جميع الأرض منهم واستأذنت أن أحكي له ما كان خطر لي فحكيت له ثم قلت ما هذه إلا نية جميلة ولكن المولى يسير في البحر العساكر وهو سور الإسلام ومنعته فلا ينبغي له أن يخاطر بنفسه فقال أنا أستفتيك ما أشرف الميتتين فقلت الموت في سبيل الله فقال غاية ما في الباب أن أموت أشرف الميتتين فانظر إلى هذه الطوية ما أطهرها وإلى هذه النفس ما أشجعها وأجرأها رحمة الله عليه. اللهم إنك تعلم أنه بذل جهده في نصرة دينك وجاهد رجاء رحمتك فارحمه.